سورية وروسيا.. صداقة شمسها لم تغرب يوماً
 الدكتورة طيف محمد






إذا اعتزمت يوماً السفر إلى روسيا، وأنت تحزم حقائب الرحيل لقضاء إجازة قصيرة، بعد أن وقع الاختيار عليك لتكون أحد أولئك الإعلاميين المحظوظين، فتذكر أنك ذاهب لبلد تقدس قيمة الصداقة وتعظم الصديق، ولعل تسمية جائزة "وسام الصداقة" بهذا الاسم خير دليل.


منذ فترة قصيرة ضجت المواقع الإخبارية بخبر منح جائزة "وسام الصداقة" لطبيب العيون السوري الروسي البارز يوسف ناعم يوسف، وهو مدير المعهد الروسي لأمراض العيون، هذا التكريم المستحق من قبل الرئيس بوتين في الكرملين يحمل في طياته الكثير من المعاني السامية ليس للطبيب السوري المتميز بل أيضاً للجمهورية العربية السورية والتي تربطها مع روسيا الاتحادية صداقة عميقة تعود جذورها إلى أعوام طوال .


هذه الصداقة المتينة المتأصلة عبر جذور التاريخ، تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، وقد شهدت العلاقات بين البلدين مداً وجزراً حسب تغير القادة والأنظمة بين البلدين الصديقين، لكن الفيصل الأوحد في تلك العلاقة أنّها استمرت رغم كل الظروف استراتيجية ومثالية لكل منهما، فقد كان الاتحاد السوفياتي من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال سورية وأقام علاقات دبلوماسية معها في العام 1944، ولعب دوراً بارزاً في دعوة سورية إلى مؤتمر سان فرانسيسكو التأسيسي للأمم المتحدة، فكانت سورية من الدول المؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥م وفي العام م١٩٤٦ كان الاتحاد السوفييتي أول من أيّد جلاء الاستعمار الفرنسي عن أرض سورية الحبيبة.


هذا غيض من فيض من تاريخ هذه الصداقة الاستثنائية ولقد توطدت مجدداً أواصرها مع بدء الحرب على وطننا الغالي، حيث وقفت روسيا إلى جانب الدولة العربية السورية في حربها لمكافحة الإرهاب، وتجسّد ذلك جلياً بالموقف الروسي الداعم والمساند لسورية في مجلس الأمن الدولي حيث استخدمت حق الفيتو ١٤ مرة، ثم توّج بالتدخل العسكري المباشر بناءً على دعوة الجمهورية العربية السورية في العام ٢٠١٥ حيث أصبح لروسيا قاعدة عسكرية (حميميم) في مدينة اللاذقية وهي القاعدة العسكرية الثانية بعد طرطوس.


إن الموقف الروسي المساند للدول العربية السورية ثابت لم يتبدل منذ بدء الحرب على سورية، فالدعم الروسي لم يقتصر على الجانب السياسي بل تعداه إلى إمداد سورية بأحدث الأسلحة المتطورة، وتقديم الشهداء دفاعاً عن وحدة أراضي وطننا الغالي، فسورية اليوم هي الحليف الأقوى لروسيا في منطقة الشرق الأوسط لمواجهة الجشع الأمريكي في المنطقة.


وبفضل الانتصارات التي حققها الجيشان السوري والروسي على الإرهاب في سورية، أصبح هناك مجالات للحوار السلمي والحل السياسي في البلاد، بعد أن كانت كلمة الإرهاب تفرض نفسها بقوة السلاح.

والجميل أن العلاقة بين الطرفين لم تقتصر على الجوانب السياسية بل سعى الجانبان إلى إجراء الاتصالات بين المعاهد العلمية ومؤسسات التعليم العالي، وشجعا على تنفيذ المشاريع والبرامج المشتركة في المجال العلمي والتقني والتكنولوجي، وتبادل الخبرة والمعلومات العلمية المتوفرة ،آخذين في عين الاعتبار حاجات البلدين والتزاماتهما الدولية، وإحدى المشاريع العلمية المثمرة هو مركز أبحاث سوري روسي في جامعة البعث بحمص، بالشراكة مع جامعة موسكو الحكومية للتكنولوجيا؛ يقدّم للطلاب السوريين ما يحتاجونه من دورات تدريبية في شتى مجالات العلوم والمعارف، وخاصة في مجال تعلم اللغة الروسية، واستطاع بعض الطلاب التألق في هذا المضمار وتمكنوا من المشاركة في أولمبياد اللغة الروسية، وذلك في المعهد العالي للغات بحمص حيث وصل عدد المشاركين 200 طالب وطالبة في نهاية العام الفائت .


وتبرز البصمات الروسية واضحة وجلية في الجانب التعليمي من خلال المنح الدراسية المقدمة فعندما أغلقت الكثير من البلدان أبوابها في طريق الطلاب السوريين ، فتحت الجامعات الروسية ذراعيها مرحبة بهم، مقدمة الكثير من المنح التعليمية لشتى المراحل العلمية وخاصة لطلاب الماجستير والدكتوراه، وأرفدتهم بكل ما يحتاجونه للحصول على المؤهل العلمي المطلوب ففي العام الحالي على سبيل المثال: أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في سورية عن 550 منحة دراسية مقدمة من جمهورية روسيا الاتحادية للمرحلتين الجامعية الأولى والدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه) بمختلف الاختصاصات المتوافرة في جامعاتها بما فيها الطبية .


إن المنح التعليمية المقدمة لشبابنا السوري إضافة كبيرة لهؤلاء الشباب، خاصة بأن التعليم الروسي هو من أشهر الأنظمة التعليمية شهرة وتفوقاً في العالم حيث أن ربع المؤلفات العلمية والأدبية في العالم تم نشرها في روسيا، كما أن اللغة الروسية منتشرة بكثرة بين شعوب العالم وتعد من اللغات الستة الرسمية للأمم المتحدة.


أما على الصعيد الإنساني فمن ينسى صورة الطفلة السورية من محافظة حلب سيدرا زعرور التي أقعدتها الحرب وأعادها الفريق الطبي الروسي لحضن وطنها واقفةً، بعد أن خضعت لعملية جراحية صعبة انتهت بتركيب طرفين اصطناعيين لها.


سيدرا البالغة من العمر 10 أعوام فقدت ساقيها جراء قصف بالهاون شنه مسلحون على أحياء سكنية في مدينة حلب السورية، واستطاع الفريق الطبي الروسي بإعادة الأمل ورسم البسمة على ثغرها بعد قيام وزارة الدفاع الروسية بتلبية طلب أسرتها لمساعدة الطفلة لتلقي العلاج في روسيا، و هذه ليست المساعدة الطبية الإنسانية الوحيدة لروسيا ومن بين المساعدات العينية التي قدمتها موسكو لصديقتها سورية، مستشفى ميداني نُقل جوا وألحق به 75 طبيباً وممرضاً لتطبيب المرضى وعلاج الجرحى في حلب، حيث قدّم الفريق الطبي مئات المساعدات لأبناء هذا الوطن الذي لا ذنب له سوى أنّه واكب واحدة من أشرس الحروب التي شُنّت على البشرية .


ولعل الدور الأبرز للصديقة روسيا تجلى بشكل أوضح في سورية خلال أزمة كورونا حيث زودت روسيا صديقتها سورية بآلاف الجرع من اللقاح الروسي سبوتنيك وسبوتنيك لايت، وفحوص مخبرية لعدوى فايروس كورونا، هذا بالإضافة إلى العمل الإنساني الذي قُدّم من جانب المنظمات الإنسانية الروسية منذ بدء الحرب على سورية من أغذية وأدوية ومعدات أساسية للسكان .


الجانب الإنساني للعملية الروسية في سورية، لم يقتصر على المساعدات والأدوية، بل أرسلت موسكو فرقاً متكاملة لإزالة الألغام والعبوات الناسفة التي زرعها الإرهابيون قبل انسحابهم من المناطق المحررة، وأطلقت برنامجاً خاصاً لتدريب العسكريين السوريين على إزالة الألغام وتطهير الأراضي المحررة من المتفجرات.

والمجتمع المدني أيضاّ والمنظمات الأهلية والكنيسة الأرثوذوكسية الروسية من جهتها لم تقف مكتوفة الأيدي، حيث عملت هي الأخرى على تنظيم الحملات الخيرية الكبيرة وجمع التبرعات المادية التي تم تسليمها بالتعاون مع الحكومة الروسية للجهات الدينية على اختلاف طوائفها في سورية.


ولعل أروع المساعدات وأهمها هو ترميم قوس النصر في تدمر السورية الذي دمّره مسلحو تنظيم "داعش" الإرهابي، وذلك على أساس نموذج روسي رقمي ثلاثي الأبعاد، وهي مبادرة جميلة تبرهن عن مدى تقدير روسيا واحترامها لآثار سورية وخاصة مدينة تدمر التي تشكل الهوية التاريخية لبلدنا العظيم وبذلك تكون روسيا جسّدت بحق معنى الصداقة، وأهمية وجود صديق يمدك بكل أشكال العون في حين أغلقت الكثير من الدول أعينها وصمت آذانها، وأغلقت أفواهها عن قول كلمة الحق، فـأضاعت بوصلتها وأعمت بصيرتها، وامتنعت عن أي شكل من أشكال الدعم.


ما أعظم الصداقة وما أروعها! وما أصعب الحياة مالم يكن لديك صديق حقيقي يشاركك آلامك و يثني على نجاحاتك، هذا بين البشر، فما بالك بين الدول؟! فمن المؤكد أن حبات سنابلها سوف تتكاثر وقيمتها ستتعاظم، لأن ثمارها ستحصدها الشعوب في مواسم الخيرات، وهذا الحال ينطبق تماماً على الصداقة المتينة التي جمعت بين الشعبيين السوري والروسي، وما وسام الصداقة الذي مُنح للطبيب السوري يوسف ناعم إلا برهاناً أن روسيا بلد تقدس العلم وترعى المبدعين، وكذلك روّاد سورية وخيرة أطبائها يستحقون الأوسمة والتقدير، فالوسام المستحق ما كان ليمنح لولا جهود حثيثة امتدت طوال ثلاثين عاماً من الجهد والعطاء والتألق، في مجال طب العيون والإخلاص لهذه المهنة الإنسانية السامية.  
2022-06-20