أجهزة تزييف الوعي في ثوبها الجديد!


بقلم: محمد سيّد أحمد
 
يُعَدّ الوعي من المفاهيم الرئيسية في تراث الفكر الإنساني، فقد تناولته الدراسات الاجتماعية بمختلف حقولها وتخصّصاتها العلمية بشكل كبير، نظراً لأنّ مفهوم الوعي قديم قِدم الفكر ذاته، وعلى اعتبار أنّ الفكر الإنساني يعبّر عن أرقى شكل من أشكال الوعي، وقد حظي مفهوم الوعي بأهمية كبيرة من قبل الفلاسفة والعلماء لدرجة أنّ مشكلات الفلسفة الحديثة تكاد تنحصر في المشكلات الخاصة بالوعي.

 

وحتى لا نخوض في تفاصيل ليس محلّها هنا، فالوعي يمكن تعريفه بشكل مبسّط بأنه "إدراك المرء لذاته ولما يحيط به إدراكاً مباشراً وهو أساس كلّ معرفة". ووفقاً لهذا التعريف فإنّ هناك ثلاثة مكوّنات للوعي هي: المعرفة التي يحصل عليها المرء من مؤسّسات التنشئة الاجتماعية المختلفة، ثم الموقف الذي يتخذه المرء من هذه المعرفة سواء بالإيجاب أو السلب، وأخيراً السلوك الذي يتحدّد بناءً على الموقف المتخذ من المعرفة المكتسبة، وهذه المكوّنات الثلاثة تشكّل بنية الوعي لدى الأفراد داخل المجتمع.

 

وبما أنّ المعرفة هي المكوّن الأوّل للوعي الإنساني فلا بدّ من التركيز على مصادر الحصول على هذه المعرفة، والمؤسّسات المنوط بها مدّ الإنسان بهذه المعرفة، وبما أنه قد أصبح من المعروف والمستقرّ عليه في الفكر الإنساني أنّ الإنسان كائن اجتماعي، حيث يولد كصفحة بيضاء تتمّ الكتابة عليها وتشكيلها عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة. وهنا تبرز مؤسّسات التنشئة الأولية مثل الأسرة كمؤسسة أولى للتنشئة الاجتماعية، تليها المدرسة ثم الجامعة. هذا إلى جانب بعض المؤسسات الأخرى الثانوية كالمؤسسة الدينية المسجد الكنيسة المعبد ، والمؤسسات الترفيهية كالأندية الاجتماعية الثقافية الرياضية ، ومؤسّسات المجتمع المدني الجمعيات الأهلية النقابات المهنية – الأحزاب السياسية ، هذا إلى جانب وسائل الإعلام.

 

وكانت هذه المؤسسات والأجهزة تاريخياً تلعب دوراً محورياً في تشكيل وعي الإنسان عبر مدّه بالمعرفة اللازمة لفهم ما يدور حوله وتحديد موقفه، وبالتالي سلوكه تجاه مواقف الحياة المختلفة، لكن وللأسف الشديد بدأت هذه المؤسسات والأجهزة الرئيسية الأسرة المدرسة الجامعة تفقد دورها داخل مجتمعاتنا العربية، فلم تعُد الأسرة تقوم بدورها في عملية التنشئة الاجتماعية نتيجة لانشغال الوالدين عن القيام بدورهما المنوط بهما في هذا الإطار، فلم يعد الطفل يتلقى معارفه الأساسية من الأسرة، كما كان في الماضي. والأمر نفسه في ما يتعلق بالمدرسة التي تدهورت أحوالها إلى حدّ كبير وفقدت أحد أهمّ أدوارها وهي المشاركة في تشكيل وعي الأبناء عبر المصادر المتنوّعة للمعرفة الإنسانية وأصبحت وسيلة للتلقين والحفظ فقط، وكذلك الجامعة التي لم تعد تمدّ الطلاب إلا بمجموعة من المعارف التخصصية يتمّ بها حشو أدمغة الطلاب من دون تحفيزهم على إعمال العقل.

 

وما ينطبق على مؤسسات وأجهزة تشكيل الوعي الأولية قد طال مؤسسات تشكيل الوعي الثانوية، فلم تعُد المؤسسات الترفيهية تقوم بأدوارها في هذا الشأن، وكذلك المؤسسات الدينية التي لعبت أدواراً سلبية للغاية في نشر الأفكار المتطرفة. أما مؤسسات المجتمع المدني فيكاد دورها يختفي داخل مجتمعاتنا العربية. وفي ظلّ هذا الغياب والتراجع لمؤسسات وأجهزة التنشئة التقليدية بدأ الإعلام يأخذ دوراً أكبر في عملية تشكيل الوعي، حيث أصبح هو الوسيلة الرئيسية التي يستمدّ منها الإنسان معارفه الأساسية وفي المجالات كافة.

 

وهنا أدركت القوى الاستعمارية الجديدة في العالم والمتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية ومعها اللوبي الصهيوني أهمية هذه الوسيلة، فبدأت بالسيطرة عليها لكي تتحكّم في مصير هذه المجتمعات، فإذا كانت وسائل الإعلام هي المتحكّم الرئيس في عملية تشكيل وعي الإنسان العربي، فعندما تتمّ السيطرة على هذه الوسائل يمكنها بسهولة تزييف وعيه عبر التحكم في المعرفة التي يستمدّها عبر هذه الوسائل.

 

وخلال العقدين الأخيرين قامت بتطوير الآلة الإعلامية الجهنمية الجبارة لتتحوّل إلى جنرال في الحرب على مجتمعاتنا العربية، فظهرت الشبكة العنكبوتية للمعلومات الانترنت ومن خلالها ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي مع تطوير في تكنولوجيا الهاتف المحمول، وبذلك أصبح كلّ إنسان يمتلك وسيلته الإعلامية الخاصة التي يستطيع من خلالها الحصول على ما يشاء من معلومات ومعارف تشكّل المكوّن الأوّل لعملية الوعي، وإذا كانت المعلومات والمعارف زائفة، فإنّ ما سيتمّ ليس تشكيلاً للوعي بل تزييف له.

 

ويمكننا ملاحظة حجم التزييف الذي مارسه الجنرال إعلام خلال سنوات الربيع العبري، حيث استخدمت آلياته القديمة والجديدة كلّها في تدمير مجتمعاتنا العربية من الداخل، فعبر «الجزيرة» و«العربية» وغيرها من القنوات الغربية التي تبثّ بالعربية تمّ تزييف وعي المواطن العربي في ما يتعلق بالأحداث التي تدور داخل مجتمعه والمجتمعات العربية المجاورة، فعندما تسأل مواطناً عربياً من أين استمدّ معلوماته عمّا حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية؟ فسيسارع فوراً ليؤكد لك أنها عبر وسائل الإعلام خاصة "الجزيرة" و"العربية"، والآن إذا سألت الشباب الذي يشكّل ما يقرب من ثلثي سكان العالم العربي من أين تستمدّ معلوماتك؟ فسوف يؤكد أنها من خلال الإعلام في ثوبه الجديد عبر شبكة الإنترنت ومواقع البحث الرئيسية عليها مثل "غوغل" و"يوتيوب" و"فيس بوك" و"تويتر".

 

وهنا لا بدّ أن ندرك مدى المأزق الذي وقعت فيه مجتمعاتنا العربية، لذلك لا بدّ من عودة مؤسسات وأجهزة التنشئة الاجتماعية الأولية والثانوية إلى لعب دورها من جديد في عملية تشكيل الوعي، ولا نترك الساحة للجنرال إعلام الأميركي – الصهيوني بأجهزته المستحدثة ليقوم بتزييف وعي المواطن العربي بحقيقة قضايا ومشكلات مجتمعه الأساسية، اللهم بلَّغتُ اللهم فاشهد.

 

2017-10-18