الرَّجلُ الأضخمُ في الحيِّ


بقلم : محمد بيرق

«كلهم يتساوون في الخوف من إيران، السعودية ودول الخليج أضعف من أن تشاغب على الاتفاق النووي، ولكن يمكنها أن تشكو إلى الأمريكيين وتعاتبهم، فهم يعتبرون توقيع الاتفاق خيانة لهم..» محمد حسنين هيكل.

النظام العالمي اليوم بات حلبة دولية، «الرجل الأضخم» فيها يترنّح، ويداه تلفّان وتدوران في وسط ضبابي، ما عادت الولايات المتحدة الأمريكية تعي فيه حجم الظروف الآنية، ولا حتى تستشرف الغد إثر التغييرات الحاصلة في بنية هذا النظام، حيث دخول دول قوية حيّز الحلبة، وأخرى مؤثرة إقليمياً، لذا ترى واشنطن مكبّلة تارة ومجنونة تارة أخرى، فأسطورة «الرجل الأضخم» تسيطر على عقلها الباطن، وتسيّر أقدامها بخطا لا إرادية، طامحة للوقوف في ثبات مأمول، ثبات أصبح من المستحيل تحقيقه رغم الجهود التي تمارسها واشنطن حدّ المكابرة لعدم الاعتراف بأن خطراً، بل أخطاراً كبيرة باتت تهدّد الجسد الأمريكي الضخم، وضخامته ما عادت تساعده على التوازن، وأن سياسته جعلت حلفاءه ينظرون إليه نظرة الندّ للندّ، بينما فقط ربيبته «إسرائيل» تثابر على ضخّ المرايا المحدّبة في وجهه لإظهاره دائماً بصورة غير حقيقية تسند بها ومن خلالها مخططاتها الصهيونية.

إذاً، أمريكا تغوص اليوم في وحل مستنقعها، الذي اجتهدت سياساتها المتعاقبة القائمة على الهيمنة لإحداث تغييرات بنيوية فيه توازي الواقع الإمبريالي الأمريكي، فـعنوان «أمريكا أولاً»، بكل تداعياته الخارجية، لابدّ من أنه سيخلق أجواء غير متوقعة، وليست في حسبان العقل الأمريكي، وانسحابات الرجل الأمريكي الأول المتكررة من عدة اتفاقات دولية لابدّ من أنها ستترك أيضاً أثراً سلبياً بدأت مؤشراته تشي بسوء علاقات دولية، وسياسات اقتصادية وأمنية وبيئية وحقوقية دولية متضافرة في وجه المتعملق الأمريكي.

انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي مع إيران، كان مسوّغه أنه غير عادل، وفق اتهام ترامب لسلفه باراك أوباما، وأنه اتفاق يصبّ في مصلحة إيران!!.

لكنّ تداعيات هذا الانسحاب تعاظمت حدّ افتعال أمريكا حرب ناقلات، وإسقاط إيران طائرة أمريكية، وتهديد إيراني صريح بأن مجالها الجوي خط أحمر لا يجوز اختراقه، فإيران، وحسب تصريحات نقلتها وكالة «تسنيم»: «لا تسعى للحرب، لكّنها في أتمّ الجاهزية إذا ما وقعت»، في حين واشنطن، حسب «تغريدات» رئيسها، ليست مهتمة بالتصعيد، والدليل تراجعه التكتيكي الصريح الأخير عكس مستشاريه (بومبيو وبولتون) المناصِرَين لإشعال فتيل سياسات جنونية تصعيدية.

فالواضح إذاً أن وقائع جديدة ستفرضها حرب العقوبات الاقتصادية والسياسية والإعلامية التي ترتكبها أمريكا بحقّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وما الصور الأخيرة لمضيق هرمز (مكمن الطاقات) إلا مخرجات لسلوكيات أمريكية غايتها فرض استراتيجيات جديدة بين المحيط والخليج، مغزاها الوحيد استهداف الدور الإقليمي لإيران في المنطقة، وتبديد حضورها الدولي، وتحسين شروط المساومات الأمريكية وفق ظروف واصطفافات دولية وإقليمية، تنذر بتطوّرات دراماتيكية تصبّ جميعها في محاولات تقويض إيران من الداخل بطرق سياسية واقتصادية، وتحرص على تجنُّب الخيار العسكري، فواشنطن أصبحت على يقين بأن إيران باتت رقماً صعباً على مستوى التوازنات والقوى الإقليمية والدولية، والأجدى «بالرجل الأضخم» في الحلبة الدولية إدراك الصورة الجديدة لبنية النظام الدولي.

 

2019-06-23