رسائل إخوان الصفا.. هل يصلح العطّار ما أفسد الدهر ؟!

 

من هم إخوان الصفا؟ ولماذا اختبؤوا خلف رسائلهم التي مازالت مثار بحث ودراسة الكثير من الفلاسفة ؟
يقول إخوان الصفا في شرح طبيعة فكرهم: «وبالجملة ينبغي لإخواننا، ألا يعادوا علماً من العلوم وألا يهجروا كتاباً من الكتب، وألا يتعصبوا لمذهبٍ من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك هو النظر في جميع الموجودات بأسرها سواء الحسية أو العقلية، من أولها إلى آخرها ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها بعين الحقيقة، من حيث هي كلها من مبدأ واحدٍ وعلّة واحدة، وعالم واحد ونفسٍ واحدة، مُحيطة جواهرها المختلفة، وأجناسها المتباينة وأنواعها المفننة، وجزئياتها المتغيرة».
ويُعلن إخوان الصفا في رسائلهم، مبدأ التسامح بين الأديان والمذاهب، «من الناس من يرى ويعتقد في دينه ومذهبه الرحمة والشفقة للناس كلهم، ويرثي للمذنبين ويستغفر لهم، ويتحنن (يُظهر الحنان) على كل ذي روح من الحيوان، ويريد الصلاح للكل، وهذا مذهب الأبرار والزهّاد والصالحين من المؤمنين وهكذا مذهبنا»، ويتبرأ إخوان الصفا من النظرة الضيقة للأمور، «وليس من مذهب إخوان الصفا، أيَّدهم الله بروحٍ منه، حيث كانوا في البلاد، بل نظرُهم كلي وبحثهم عموميّ، وعلمهم جامع، ومعرفتهم شاملة».
الرمزية في الرسائل
تحتوي رسائل إخوان الصفا على كثير من القصص، ذات المغزى الأخلاقي والنقد السياسي، وترد أغلب هذه القصص على لسان الحيوانات، لأن ذلك «أبلغ في المواعظ وأبين في الخطاب، وأعجب في الحكايات، «كما أنهم وجدوا في هذا اللون من التعبير حماية لأنفسهم في حملتهم على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وكما يقول ديبور: فقد قالوا على ألسنة الحيوان ما لو خرج من فم إنسان لأثار حوله الشكوك ويقول جولدتسيهر: إن إخوان الصفا وجدوا تحت غطاء التعبير في الوصف القصصي صوراً لحقائق أبعد سمواً، يستسيغ الناس إدراكها بمقدار فهمهم، فهذا النوع من الأسلوب من أصلح الأساليب في مخاطبة الجميع، بحيث يفهم منه كل حسب مستواه المعرفي.
الرسالة الجامعة
يشير إخوان الصفا في مواطن كثيرة من رسائلهم إلى رسالة أخرى غير تلك الرسائل، يسمونها: «الرسالة الجامعة» ويصفونها بأنها جامعة «لما في هذه الرسائل المتقدمة كلها، والمشتملة على حقائقها.. وبناء على هذا النص الواضح الخطوط، فإن منهج إخوان الصفا في الرسالة الجامعة يختلف عن منهجهم في بقية الرسائل، فالرسالة الجامعة ألفت لمن تثقفوا بالرسائل أو بكتب مماثلة، أي أخذوا قسطاً وافراً من تلك المعارف السائدة في عصرهم وارتفعوا إلى مرتبة أعلى من المرتبة الأولى التي خاطبت الرسائل أصحابها.
لذلك فالرسالة الجامعة تعتمد على البراهين والحجج العقلية في تناولها القضايا المطروحة للبحث.
رسائل متنوعة
يشير تنوع رسائل إخوان الصفا وشموليتها إلى أنها من تصنيف مجموعة متعاونة متشاورة، لا فرد واحد..وربما لولا أن عاصرهم أبو حيان التوحيدي (المتوفى 414 هجرية) ما عُرفت هذه الجماعة. ويؤثر عن التوحيدي قوله عنهم «إنهم وضعوا بينهم مذهباً زعموا أنه قرَّبهم إلى الفوز برضوان الله، وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد اختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى تطهيرها إلا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة مع الشريعة، فقد حصل الكمال»… وصنَّف إخوان الصفا نحو خمسين رسالة، أفردوا لها فهرساً، وكتموا فيها أسماءهم، وبثوها في أسواق الوراقة.
العلم والمعرفة
ومن الرسائل التي نشرها وقيلت عن إخوان الصفا رسالة «الطريق إلى الله»، فالطريق إلى الله عندهم هو الغاية والقصد وهو تحرر النفس من البند أي الموت، ولكن الموت عندهم هو بداية حياةٍ أخرى. وفي معظم رسائلهم، يشدد إخوان الصفا على أن مهمة المعرفة والعلم هي الوصول إلى الله، وهذا لا يحصل إلا بعد أن يعرف الإنسان نفسه ويسعى إلى تحقيق الخير حيث يحتاج السائر في هذا الطريق إلى تمثل أفكارٍ متعالية عن النوازع البشرية والأهداف الدنيوية. ويستشف من أهدافهم في كتابة الرسائل في الأساس قولهم «إن الطريق إلى الله يعني تحقيق العدالة والحصول على ذروة الحكمة، بعد الإلمام بالعلوم والمعارف التي تنقل الإنسان من عالمه الأدنى المعيش إلى العالم المثالي في الآخرة ولا يقدر على ذلك سوى الأصفياء الحكماء من البشر وهم إخوان الصفا وخلان الوفا». وهكذا «لا يمكن الوصول إلى الله (آخر مرتبة من مراتب الإنسانية) إلا بعد الفكاك من عالم الجهل ولا يتأتى ذلك إلا عبر صفاء النفس واستقامة الطريق، نقاء النفس بالتخلص من دونية الجسد». ويذكر إخوان الصفا أن الخط المستقيم هو أقصر الخطوط للوصول، فنجدهم يستعيرون هذا المفهوم ويقولون: «إن أقرب الطرقات ما كان على خطٍ مستقيمٍ، وأسهلها مسلكاً هو الذي لا عوائق فيه». أي إن الطريق إلى الله مثلما وردَ عند إخوان الصفا إنما هو رحلة الموت، أي عالم الآخرة وصعود النفس إلى باريها، أو عودتها إلى حيث أتت، لأنها جوهر روحانية سماوية، فهي ذرَّة من النفس الكلية، التي فاضت عن العقل الفعّال.
وفي الرسالة الثالثة عشرة من القسم الرياضي من رسائل إخوان الصفا أن «الإنسان قادرٌ على أن يقول خلاف ما يعلم، ولكن لا يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل، فلا ينبغي أن ينزل الحكم على قول القائلين ولكن على حُكم العقل، قد كتبوا عن الأخلاق في رسائلهم وخصوها برسالة كاملة تناقش تلك القضية، والطفل عندهم يعدّ صفحة بيضاء قابلة للتشكل والتأثر بما حولها وبما يقدم لها، وإصلاح الإنسان يكمن أولا في إصلاح تربية الطفل، فالأخلاق كما يرون مركوزة في الجبلة والخلق بمعنى «تهيؤ ما في كل عضو من أعضاء الجسد يسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال، أو عمل من الأعمال، أو صناعة من الصنائع، أو تعلم علم من العلوم، أو أدب من الآداب، أو سياسة من غير فكر ولا رؤية».
فالإنسان الذي هو خليفة الله على أرضه مطبوع على قبول جميع الأخلاق والعلوم والصنائع، مع مراعاة الفروق الفردية بين الأشخاص في التلقي وهذا ظاهر جداً في الأفعال والأعمال، وترجع أسباب اختلاف الناس إلى «أربع جهات: إحداها من جهة أخلاط أجسامهم ومزاج أخلاطها، والثانية من جهة ترب بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالثة من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم وعادات معلميهم وأساتذتهم ومن يربيهم ويؤدبهم، والرابعة من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم».
نحن نجد من يسكن الشرق ومن في الغرب وفوق رؤوس الجبال ومن في بطون الأودية والأغوار أو على سواحل البحار وشطوط الأنهار أو في البراري والقفار، أو في الآجام؛ والأرض ذات الرملة والأرض السباخ؛ السهلة، أو في البقاع الصخرية والحجارة والحصى والرمال، أو في الأرضين السهلة والتربة اللينة بين الأشجار والزروع والبساتين والزهر والنور، وأيضاً فإن أهوية البلاد والبقاع تختلف وتؤثر في الأخلاق.
ويدعون إلى تربية الناس على احترام عقائد الآخرين والتساهل مع الأديان، ونبذ التعصب لأن اختلاف الناس يشحذ الأفكار ويفيد الناس، حيث كل فريق يحاول أن ينصر مذهبه ما يدعوه إلى الغوص في المعاني الدقيقة، والنظر إلى الأسرار الخفية، فيكون ذلك سبباً في يقظة النفوس، ويكرهون الانشغال بعيوب الناس والأولى الاشتغال على عيوب النفس فهو أولى
منهج الرسائل
يقول إخوان الصفا عن رسائلهم «عملنا هذه الرسائل وأوجزنا القول فيها شبه المدخل والمقدمات، لكيما يقرب على المتعلمين فهمها، ويسهل على المبتدئين النظر فيها، كما يقولون في رسالتهم الأخيرة «إننا نحب لإخواننا ما يكون به صلاح شأنهم، ولما كان ذلك أكثر أغراضنا منهم، بسطنا لهم هذا الكتاب، وأوردنا فيه معرفة مبادئ الأعمال، والصنايع العلمية، والعملية، بحسب ما قدرنا عليه بتوفيق الله، والذي حملنا على ذلك هو أننا لم نقتصر على علم واحد، وصناعة واحدة، لأننا علمنا اختلاف طبائع الناس وجواهرهم، وما يشتاق كل واحد منهم إليه بما يوافق طبيعته.. فجعلنا في رسائلنا هذه من مبادئ الصنائع والمعارف والعلوم ما يكون معيناً للمبتدئ، ورياضة للمتعلم»
لغة الرسائل
يقول طه حسين في مقدمته للرسائل: إن لرسائل إخوان الصفا قيمتها الفنية الخالصة، فهي من حيث إنها تتجه إلى جمهرة الناس للتعليم والتثقيف، قد عدل فيها عن العسر الفلسفي إلى اليسر الأدبي، وعني كتابها بألفاظها وأساليبها عناية أدبية خالصة، ففيها خيال كثير، وفيها تشبيه متقن، وفيها ألفاظ متخيرة، ومعان ميسرة، وليس من الغلو أن يقال: إنها قاربت المثل الأعلى في تذليل اللغة العربية وتيسيرها لقبول ألوان العلم على اختلافها، وجملة القول: إن هذه الرسائل كنز لم يقدر بعد، لأنه لم يعرف بعد.

 

2019-02-21